كوليت مرشليان الزميلة الرفيقة في مطلع تسعينيات “الديار” حيث التقينا محرّرين في الصفحة الثقافية، والصديقة المُحبّة لاحقًا، وعلى الدوام، شاءت أن تفتتح سلسلة الحوارات في جريدة “نداء الوطن” بحوار معي دارَ على رواياتي ومسائل أخرى.
كلّ الشكر لها، ولـ”نداء الوطن” العائدة إلى واجهة الصحف اللبنانية بعد احتجاب.
في ما يلي مقدّمة الحوار ونصّه.
أطلّ الكاتب جورج يرق على الرواية من باب التجارب الموجعة واختبارات الحياة القاسية والمؤثرة، وأطلّ معه أبطاله الذين نقلهم من الواقع بسحر ساحر وجعلهم ينطقون بعالم يفيض بالمشاعر والأحاسيس التراجيدية العميقة، وصارت له مكانته بين روائيّي العالم العربي في فترة زمنية قصيرة نسبياً. له أربع روايات: “ليل” و “حارس الموتى” التي وصلت الى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، “البوكر” عام 2016، ونقلتها الجامعة الأميركية في القاهرة إلى الإنكليزية. وله أيضاً “موت متواصل” التي خُصّص ريعها كاملاً لمساعدة مرضى الفشل الكلوي والسرطان. و “صبيّ القجّة” وهي رواية للناشئة. كتب في صحف ومجلات عدّة، وعمِلَ مُدققاً لغوياً ومحرّراً في بضع دور للنشر. وفي حديث له إلى صحيفة “نداء الوطن” يختصر تجربته بالتالي…
* تتربّع “حارس الموتى” على قائمة الأعمال الروائية المهمّة التي رصدت تداعيات الحرب في لبنان. من كان الخاسر الأكبر في هذه الحرب برأيك أنت كمقاتل وكاتب في آنٍ واحدٍ؟ وكيف عبّرت عن رأيك في الرواية؟
لم يخرج أحد رابحاً من الحرب. حتى المنتصر خاسر، وإن ربح بعض النفوذ. الذين فقدوا حياتهم خلالها، قنصاً أو قتلاً على الحاجز، أو حتى في المعارك، هم في طليعة الخاسرين. ويليهم ذووهم. أمّا الخسائر الماديّة فعصيّة على الإحصاء. وقد ظهر ذلك في عالم برّاد الموتى الذي عمل فيه بطل الرواية، ومواقفه الكثيرة من ممارسات الحزب الذي انتمى اليه، ومن الحرب نفسها.
* هل القارئ هنا بالذات أمام سيرة ذاتية أم أنك رسمت بخيالك عالماً روائياً مغايراً عبر بعض التضخيم للمواقف؟
ليست سيرة ذاتية. لم أكن مقاتلاً وعمري ما اقتنيت سلاحاً، حتى سكّين الستّ طقّات. بعد سنوات التشرّد سكنت في بيت للطلاب حيث تعرفت إلى أحد شركاء السكن، وهو عامل في برّاد الموتى بمستشفى المحلّة ومنه استمددتُ بعض الأفكار وطوّرتها وزدت أخرى متخيّلة، ثم أخذت اللعبة الفنية مداها بالاتكاء على هذا المزيج الذي لا مفرّ منه في كل صنيع روائي.
* لكن من يقرأ الرواية لا يخرج بهذا الانطباع.
هذه شهادة طيّبة وتدلّ على أنّي استطيع تصوير الحرب مع أنّي لم أشارك فيها. واكبتُها مواطناً نجا من الموت مراراً بعد قصف مفاجئ وقنص ليس في الحسبان، خصوصاً عندما أقمتُ مدّة لدى صديق في بيت ملاصق لخطوط التماس في عين الرّمانة – الشيّاح. الأيام التي أعيشها بعد الحرب هي
Bonus.
* في “ليل” باكورتك تناولت مناخات الحرب أيضاً لكنّ الأحداث كانت مباشرة بشكل لافت. كيف تصف ككاتب للروايتين الانتقال من عالم “ليل” الى عالم “حارس الموتى”؟
الروايتان تدور حوادثهما في أجواء الحرب لكنّ الفرق بينهما هو أنّ “ليل” سمّت الأشياء بأسمائها، بدءاً بهوية الراوي وهو مقاتل قوّاتي والمنطقة التي يعيش فيها بلوغاً إلى مآخذه على الحرب والرفاق والمرأة والحب. في حين أنّ “حارس الموتى” غاصت في الحرب وألبست شخصياتها أسماء حملها هي نفسها مقاتلون من جميع الأحزاب والفصائل من مثل “أبو الجماجم” و”أبو الهول”… ودارت حوادثها في منطقة ليست معروفة، هل هي في شرق بيروت أو في غربها، أي “الغربيّة” و “الشرقيّة” التسميتين الدارجتين في ذلك الزمن. باختصار، الروايتان تكمل إحداهما الأخرى لأنهما طالعتان من الجوّ نفسه وسألحق بهما رواية عن الحرب أيضاً، هي في طور الكتابة، كي تكتمل الثلاثية.
* كتبت الرواية بعد سنوات طويلة في العمل الصحافي. ماذا كنت تنتظر لتبدأ؟
كنت أنتظر الفوز بشيء من الاستقرار المادي والنفسي، ومزيداً من الغوص في الحياة وتجاربها المختلفة انطلاقاً من قاعدة “عيش الحياة أفضل من الكتابة عنها”. وحين حصل هذا استغنيت عن العمل الصحافي وعن التدقيق اللّغوي والتحرير اللذين زاولتهما نحو ثماني سنوات في بعض دور للنشر أبرزها “دار الساقي” و “دار الآداب”.
* في روايتك الثالثة “موت متواصل” انتقلتَ من إطار المدينة المفتوحة على تفاصيلها وشوارعها إلى مكان مقفل. كيف تقرّر أمكنة الرواية مناخاتها ومساحتها؟ وكيف أصبح جسد الأخت المريضة كل المساحة؟
“موت متواصل” سيرة شقيقتي التي عانت مرض السّكري منذ كانت في الثالثة من العمر، وعاشت على فكرة أنها لن تحيا طويلاً، وأنّ حياتها قصيرة. وعاملناها نحن أهلها وأخوتها على هذا الأساس أيضاً. وحدث أنْ فقدت النظر في الثالثة عشرة واستردّته في الخامسة والعشرين بعد عملية باللايزر نجحت تسعين في المئة، وبمرور الوقت راحت صحّتها تتدهور شيئاً فشيئاً متحمّلة العذاب ومشقّة العلاج وصعوبة الإقامة في المستشفى، إلى أنْ راحت إلى المكان الذي لا يعود أحد منه. كانت معاناتها الطويلة رواية تُنزل نفسها في وجداني صفحةً صفحةً وكتبتها بعد رحيلها وضمنتها جوانب من سيرة الأسرة بكثير من الصراحة والجرأة. أحد القراء العارفين قال لي بعد قراءة الرواية: “أنا لا أستطيع أن أكتب عن أسرتي كما كتبت أنت عن أسرتك”. يُذكر أنّ ريع هذه الرواية ذهب كاملاً إلى مساعدة مرضى السرطان وغسل الكلى من خلال حملة “كتاب وقمح” التي أسّستْها وتديرها الأديبة ماري القصيفي.
* في “صبيّ القجّة” تتمحور اهتماماتك بتفاصيل لها علاقة بقارئ اليوم وأزمة القراءة وحملة “كتاب وقمح” ومواقع التواصل الإجتماعي… ألم تشعر بخوف الوقوع في المباشرة والوعظ؟
من يقرأ الرواية يتبدّى له أنها زاخرة بالعبر والأمثولات من خلال مواقف الشخصيات ومجرى الحوادث: مثالاً علاقة الفتى الراوي بالكلب الجريح وبالكتاب والقراءة وبصديقه المريض وغيرها الكثير. يأخذ القارئ العبرة من الحدث نفسه. للمناسبة، الرواية نقلتها الدكتورة هيام قوزما إلى الفرنسية وستصدر في السنة المقبلة.
* “صبيّ القجّة” استوحيتها من عالم “فيسبوك”: كيف تنظر الى مستقبل الكتاب في المواجهة مع مواقع التواصل؟
لمواقع التواصل حضور فاعل في حياتنا اليومية إذ باتت منبراً مجانيّاً للاعلان والتسويق، وهو مفتوح لأهل الإبداع الذين يروّجون منه لأعمالهم. وقد طغت هي والهاتف الذكي، لا على الكتاب الورقي وحده، بل كذلك على التلفزيون والسينما. لكنه سيبقى ضرورة وإن نافسه الكتاب الالكتروني والـ
PDF .
لكل زمن كتابه.
* من همّ الكتّاب الذين أثّروا فيك كروائي؟ ولمن تقرأ اليوم؟
قرأت للكثيرين، كلاسيكيين ومعاصرين، وليس في عدادهم سوى قلّة من الروائيين لأني لست من قرّاء الرواية.
* روائي ولا تقرأ روايات؟!
قرأت الكثير منها ماضياً بحكم عملي محرراً ومدققاً لغوياً في دُور النشر. بمعزل عن هذا العمل أقرأ الصفحات العشر الأولى من الرواية التي تجذبني، وعشراً من وسطها، وعشراً من آخرها، لاكتشاف التقنيّة التي اتّبعها كاتبها، لا المضمون. أكبر رواية يمكن تلخيصها بأربعة أسطر. بهذه الطريقة أستطيع الاطلاع على روايات كثيرة.
* متابع صفحتك على “فيسبوك” يلاحظ انتقادك الدائم والقاسي للناشرين. ما السبب؟
لأنهم يأكلون حقوق الكتّاب. دلّيني على كاتب عربي واحد يعيش من مردود كتبه. لا أحد. وإن كان معروفاً. أما أنا فأدلّك على ناشرين عدّة يعيشون في بحبوحة ورفاهية من إصدار الكتب.
جورج-يرق-سيبقى-الكتاب-ضرورة-ولكل-زمن-كتابه
المصدر: نداء الوطن