العبسي: لا نستطيع أن نتيح للعصبية والفئوية أن تتسرب إلينا وتسيطر على تفكيرنا


العبسي: لا نستطيع أن نتيح للعصبية والفئوية أن تتسرب إلينا وتسيطر على تفكيرنا
ترأس بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي الذبيحة الالهية في في مغدوشة ، بمناسبة ختام اليوبيل الذهبي لـ” كاريتاس – لبنان عاونه المطران ايلي بشاره حداد وكاهن الرعية بحضور عدد من الشخصيات الرسمية والامنية والقضائية وحشد من المؤمنين .
وبعد الانجيل المقدس القى العبسي كلمة قال فيها :
اجتمعنا في هذا الصباح لنحتفل بالليترجيّا الإلهيّة بداعي حدث له أهمّيته الكبيرة والخاصّة أعني ختام السنة اليوبيليّة الخمسين لكاريتاس لبنان. اجتمعنا لنشكر الله تعالى على أعمال الرحمة التي عملتها كاريتاس في بلدنا في خدمة المحتاجين والمهمّشين والمنسيّين ومن إليهم. اجتمعنا في هذا المقام المقدّس، سيّدة المنطرة، في بلدة مغدوشة المحبوبة جدًّا، في ربوع أبنائنا الأكارم المحبوبين الحاملين الربّ يسوع وأمّه العذراء في قلوبهم المفعمة بالإيمان. بارك الله عليهم وخيّمت العذراء بجناحيها عليهم. وما يزيد احتفالنا جمالًا حضور الحجّاج والزوّار. تقبّل الربّ الإله حجّهم وصلاتهم.
من هو قريبي؟
“من هو قريبي؟”. هذا السؤال الذي طرحه الشابّ الغنيّ على يسوع ينطوي على ما كان لليهود من ذهنيّة في علاقاتهم مع الغير. يشي هذا السؤال “من هو قريبي” بأنّ للمرء في معتقدهم أناسًا قريبين يستحقّون المحبّة والرحمة والعناية وأن يُصنع إليهم الإحسان، وأنّ له من جانب آخر أناسًا غيرَ قريبين ليس هو ملزمًا بمحبّتهم ورحمتهم والعناية بهم والإحسان إليهم، أللهمّ إن لم يكونوا أعداءً وجبت عليه محاربتهم أو تأثيمهم أو تكفيرهم.
خلافًا لجواب السيّد المسيح على سؤال الشابّ الأوّل “ماذا عليّ أن أعمل لأرث الحياة الأبديّة” كان جواب الربّ يسوع هذه المرّة من خارج الشريعة اليهوديّة، أي من خارج ما كان علماءُ الشريعة والفرّيسيّون والكتبة ومجملُ الشعب اليهوديّ يعتقدون به ويمارسونه، كان تعليمًا جديدًا وممارسة جديدة. لم يقل المعلّم لعالم الشريعة ماذا تقرأ في الشريعة، كما أجابه على سؤاله الأوّل “ماذا عليّ أن أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟”، بل أجابه قريبك هو من تصنع إليه الرحمة.
“مَن تصنع إليه الرحمة”. من هذ الجواب نستنتج أنّ المسيحيّ ليس له إنسان قريب وإنسان بعيد، ليس له إنسان صديق وإنسان عدوّ. جميع الناس إخوة له، وهو الذي يصنع القريب.فلا نستطيع إذن، في عمل الرحمة والإحسان، أن نسمح لأنفسنا بأن نميّز بين الناس ونفرّق بينهم ونصنّفهم بين قريب وعدوّ. لا نستطيع أن نتيح للعصبيّة والتحزّب والفئويّة، بجميع مظاهرها وألوانها، أن تتسرّب إلينا وتسيطر على تفكيرنا وعاطفتنا وسلوكنا بحيث نحجب الرحمة عن أناس ونبسطها لأناس. جميع الناس هم قريبون منّي، لا يبعدهم عنّي ولا يفرّقهم عنّي لا الدم ولا المجتمع ولا العقيدة ولا القوميّة ولا الدين. على هذا المبدأ بنت الكنيسة ومن خلفها كاريتاس نظرتها إلى الناس وبنت عملها الاجتماعيّ منذ أن قامت إلى اليوم.
القريب إذن هو من أذهب إليه وأبحث عنه. لكنّه بالتحديد وبالدرجة الأولى ذاك الذي عرّاه الناس فأصبح من دون شيء حتّى من ثيابه، وأوسعوه ضربًا ورموا به، إنّه الذي أهمله الناس وهمّشوه ونبذوه وعزلوه وظلموه وحقّروه، الذي شوّهه الناس فما عاد له وجه ولا هيئة ولا منظر. هذا هو قريبـي الأقرب. بل إنّ القرابة تمتدّ لتشمل الأعداء، فإنّ اليهود كان يعدّون السامريّين أعداءً لهم. ومثل السامريّ الرحيم لا يخرج عن تعليم السيّد المسيح الذي علّمنا أن نحبّ أعداءنا ونبارك لاعنينا ونصلّي من أجل الذي يضطهدوننا (متّى 43-44).-
السامريّ العلمانيّ
في مثل السامري الرحيم شيء يَلفت النظر. إنّ الذي اعتنى بالرجل المضروب المجرّح الذي وقع عليه اللصوص لم يكن رجل دين، لم يكن شمّاسًا ولا كاهنًا ولا مطرانًا، بل كان علمانيًّا. وهذا أمر ملفت للانتباه نستطيع أن نستنتج منه أنّ أعمال الرحمة وما تستخدمه من وسائل وآليّات ليست مقتصرة على الإكليروس بل هي مطلوبة من الجميع، بل قد تكون مطلوبة بالدرجة الأولى من العلمانيّين قبل الإكليروس. وما الشمامسة (الخدمة أو الخدم أو الخدّام) الذين أقامهم الرسل لخدمة الموائد سوى النواة العلمانيّة الأولى للعمل الاجتماعيّ في الكنيسة ولو أنّ هذه الشمّاسيّة قد أصبحت فيما بعد درجة كهنوتيّة. عن دور العلمانيّين في أعمال المحبّة والرحمة يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني: “على العلمانيّين إذن أن يجلّوا أعمال المحبّة والمبادرات في حقل المساعدة الاجتماعيّة وأن يساندوها بما في وسعهم سواءٌ كانت خاصّة أمّ عامّة، علاوة على المبادرات الدوليّة، إذ بها يُكفَل للأفراد والشعوب المتألّمة العونُ الفعّال متضامنين في ذلك مع جميع الناس ذوي الإرادة الصالحة” (رسالة العلمانيّين، 8).
الثبات في الخدمة
ومن مثل السامريّ الرحيم نستنتج كذلك أنّ قريبـي هو الذي أثبُت في محبّتي له بحيث لا تكون هذه المحبّة عابرة ظرفيّة. إنّ السّامريّ اعتنى بالرّجل ونقله إلى الفندق ودفع عنه مسبّقًا ووعد بأن يدفع ما قد يتوجّب عليه لاحقًا…القرابة لا تقوم على عمل واحد، على فعل تصدّق أو عمل مساعدة أو ما شابه… القرابة هي أن آخذ على عاتقي الإنسان بكامله ومدى الحياة… أن ألتزم به التزامًا نهائيًّا. من هنا تأتي أهمّيّة إنشاء المؤسّسات والجمعيّات الإنسانيّة والاجتماعيّة والخيريّة، فإنّ العمل عندما يصبح مؤسّسة نضمن له الاستمرار والتقدّم والتحسّن. وفي هذا المضمار يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني: “العمل المنظَّم هو أيضًا هامّ جدًّا لأنّه كثيرًا ما يقتضي من جانب الجماعات الكنسيّة أو من الأوساط المختلفة التي يمارَس فيه نشاطًا جماعيًّا. ثمّ إنّ المنظّمات التي هدفها العمل الرسوليّ الجماعيّ تسند أعضاءها وتربّيهم على الرسالة وتحدّد عملهم الرسوليّ وترشده بحيث يُرجى منه من النتائج ما هو أهمّ جدًّا ممّا لو عمل كلّ واحد منفردًا”(رسالة العلمانيّين، 18)





